إيران ترد على إسرائيل- شروط جديدة لترسيم ملامح الشرق الأوسط

المؤلف: د. عماد آبشناس08.28.2025
إيران ترد على إسرائيل- شروط جديدة لترسيم ملامح الشرق الأوسط

انتهجت إسرائيل سياسة مُمنهجة في استغلال ملف إيران النووي كورقة ضغط، بل كذريعة واهية، لشن هجمات عدوانية على الأراضي الإيرانية، وذلك بغطاء ودعم كاملين من الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية. والواقع يُظهر أنه حتى لو لم يكن هناك برنامج نووي إيراني، لابتكرت إسرائيل أسبابًا ومبررات أخرى لغزو إيران، فالتاريخ يشهد بأن الإسرائيليين والأمريكيين يمتلكون براعة فائقة في اختلاق الذرائع وتلفيق الاتهامات لتبرير اعتداءاتهم على الدول الأخرى.

المؤكد أن هذه الاعتداءات الإسرائيلية لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة لخطط مُحكمة ومُعدة مسبقًا منذ سنوات طويلة. وعلى الرغم من التزام إيران الكامل بالاتفاق النووي وتطبيقها لبنوده بحسب التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي بلغت أربعة عشر تقريرًا، إلا أن الولايات المتحدة، بعد أن تأكدت تمامًا من وفاء إيران بالتزاماتها وتباطؤ وتيرة إنتاج اليورانيوم، انسحبت بشكل أحادي من الاتفاق، بهدف تمهيد الطريق وتقويض الاتفاق لِما نشهده اليوم من تصعيد وتوتر.

ويرى العديد من المراقبين الإيرانيين أن المفاوضات النووية لم تكن سوى خدعة مُحكمة، لأن الظروف الإقليمية لم تكن مُواتية لِإسرائيل في ذلك الوقت لتنفيذ عملية عسكرية، وأن الولايات المتحدة كانت تسعى فقط لكسب الوقت لصالح إسرائيل.

ويتضح ذلك جليًا من خلال الجولات الخمس الأخيرة من المفاوضات الإيرانية الأمريكية، حيث تعمد الأمريكيون تضليل الإيرانيين بتغيير مواقفهم وتعديلها في كل اجتماع، وذلك بهدف تعطيل التوصل إلى أي اتفاق، حتى يتم تجهيز كل شيء لما أطلق عليه ترامب "اليوم الحادي والستين".

ورغم أن القوانين الدولية تنص على أن أي اعتداء على دولة عضو في الأمم المتحدة يستوجب إدانة فورية من مجلس الأمن الدولي، وفرض عقوبات رادعة على الدولة المعتدية، إلا أننا لاحظنا أن مجلس الأمن كان مُشلُولًا وعاجزًا تمامًا عن اتخاذ أي إجراءات فعالة ضد إسرائيل، وذلك بسبب الحماية والدعم اللامحدود الذي توفره الولايات المتحدة والدول الأوروبية لإسرائيل.

إن التذرع بالخوف أو التهديد المحتمل من الطرف الآخر، أو اللجوء إلى تنفيذ ضربة استباقية لمنع الطرف الآخر من القيام بعمل ما، لا يمكن اعتباره مبررًا قانونيًا مقبولًا من قبل المجتمع الدولي، فإذا ما تم قبول هذه الذريعة، فسيحق لكل دولة أن تشن هجمات على خصومها بحجة مماثلة، مما يُنذر بفوضى عارمة.

إن تقاعس الأمم المتحدة والمنظمات الدولية عن اتخاذ أي خطوات جادة لوقف الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة وبقية المنطقة، وتجاوزها السافر لجميع القوانين الدولية، وارتكابها لعمليات إبادة جماعية ومجازر وحشية ضد المدنيين الأبرياء في وضح النهار، يُحول العالم إلى غابة يسودها قانون القوة.

وكما يقول المثل اللبناني الشائع: "كل مين إيدو إلو"، بمعنى أن كل من يستطيع حماية نفسه يجب أن يتخذ كل الإجراءات الضرورية لحماية نفسه، ومن لا يستطيع حماية نفسه، فعليه أن يواجه مصير الفلسطينيين.

لا يخفى على أحد أن إسرائيل، وفقًا للتصريحات العلنية الصادرة عن بنيامين نتنياهو، تسعى جاهدة للسيطرة العسكرية الكاملة على المنطقة بأسرها، وتغيير خريطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك من خلال تحقيق الحلم الصهيوني بإقامة "إسرائيل الكبرى" المزعومة من النيل إلى الفرات، وتحويل بقية المنطقة إلى دويلات صغيرة متناحرة ومتصارعة إلى الأبد، لتتمكن إسرائيل من بسط نفوذها وهيمنتها عليها بسهولة. وفي هذا السياق، تُعتبر إيران عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق هذه الأحلام الإسرائيلية التوسعية.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهي تعتبر أن السيطرة على منطقة الشرق الأوسط هي بمثابة نقطة ارتكاز استراتيجية في صراعها المحتدم مع الصين من جهة، وروسيا من جهة أخرى، وتنظر إلى إيران كحاجز منيع يقف في وجه تحقيق هذا الطموح الأمريكي.

لذلك، انخرط الأمريكيون في مفاوضات مع الإيرانيين، لكنهم في الوقت نفسه عملوا على عرقلتها وتأخيرها مرارًا وتكرارًا، لإعطاء انطباع زائف بأنه طالما أن المفاوضات جارية، فلن يكون هناك أي هجوم عسكري على إيران. وفي المقابل، كان الإسرائيليون يستغلون هذه الفترة الثمينة لوضع اللمسات الأخيرة على خططهم لتوجيه ضربة قاصمة لإيران.

ولا شك أن الإيرانيين قد انخدعوا بالوعود والإغراءات الأمريكية، وفقدوا حذرهم ويقظتهم، ليصحوا على وقع المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية.

إن البيان الصادر عن مجموعة السبع، الذي يؤيد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" دون الاعتراف بحق إيران في الدفاع عن نفسها، يُجسد مدى ازدواجية المعايير التي يعيشها العالم في الوقت الراهن، ويؤكد أن القوى العظمى ما زالت مستمرة في دعم الظالم ضد المظلوم.

خلال عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، حاولت إسرائيل استغلال عملائها في الداخل الإيراني لزعزعة الاستقرار، ولكن هذه العملية باءت بالفشل الذريع بسبب إخفاق هؤلاء العملاء في تنفيذ المهام الموكلة إليهم.

ويبدو أن الدروس المستفادة من تلك التجربة المريرة قد دفعت الإسرائيليين إلى التحضير للعملية الحالية بشكل أكثر دقة وإحكامًا. وربما يمكن القول إن الجهة التي قامت بالتخطيط لهذه العملية داخل إيران هي نفسها التي خططت لعمليات "مجموعة العنكبوت" الأوكرانية ضد روسيا، نظرًا للتشابه الكبير بين العمليتين.

استطاعت إسرائيل استغلال ما يعتبره الإيرانيون "الفلتان الحدودي" لبلادهم، حيث قامت بإدخال المئات من عناصرها الإرهابية إلى إيران متنكرين بصفة مهجرين أفغان، فمن يعرفون طبيعة الحدود الإيرانية الأفغانية يدركون أن آلاف الأفغان يعبرون الحدود يوميًا بطرق غير شرعية، دون أي رقابة أو تسجيل لهوياتهم.

ومن جهة أخرى، استغل الإسرائيليون والأمريكيون شبكات التهريب المنتشرة على الحدود الإيرانية مع العراق وأفغانستان والخليج، لتهريب قطع الطائرات المسيرة والصواريخ إلى داخل الأراضي الإيرانية. وبعد إدخال العناصر الإرهابية وقطع الطائرات المسيرة والصواريخ، قاموا بإنشاء أماكن سرية لتجميعها في ضواحي المدن الإيرانية الكبرى.

واستغل المهاجمون شاحنات كبيرة وصغيرة وسيارات "فان" تم تعديلها خصيصًا لحمل الصواريخ والطائرات المسيرة. وعندما حانت ساعة الصفر، تلقت كل سيارة من هذه السيارات الأوامر بتنفيذ المهام الموكلة إليها، حيث كانت المهام مقسمة بين استهداف قادة القوات المسلحة الإيرانية والعلماء الإيرانيين البارزين، واستهداف منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية وقواعد الدفاع الجوي والبنية التحتية الأمنية والعسكرية الحيوية.

وفي الوقت نفسه، قامت مجموعات من القراصنة الإلكترونيين بشن هجمات إلكترونية مُنسقة على الشبكات التي تربط أنظمة الدفاعات الجوية الإيرانية ببعضها البعض، بهدف تعطيلها وشل حركتها.

كان الإسرائيليون يأملون أن يؤدي اغتيال قادة الحرس الثوري والقوات المسلحة إلى إحداث حالة من الفوضى والاضطراب في الشارع الإيراني، مما يسمح لهم بتحريك عملائهم لإشعال احتجاجات واسعة النطاق تُشغل القوات الأمنية، فتصبح الطائرات الإسرائيلية قادرة على استهداف المنشآت النووية والبنى التحتية العسكرية والاقتصادية بضربة قاضية مدمرة عبر 200 مقاتلة.

ولكن الإيرانيين استطاعوا استعادة توازنهم بسرعة غير متوقعة، وتجاوزوا خلافاتهم الداخلية، وتكاتفوا وتلاحموا مع بعضهم البعض، وتمكنت القوات المسلحة من السيطرة على الأنظمة التي تم اختراقها خلال أقل من ساعتين، وتفعيل أنظمتها الدفاعية المضادة.

وعلى الرغم من أن ترسانة إيران من الطائرات المقاتلة تعتبر قديمة نسبيًا، فإن هذه الطائرات انطلقت على الفور لتكون جاهزة للمواجهة، واستهداف الصواريخ المحتملة.

والدليل القاطع على فشل العملية الإسرائيلية هو أن الطائرات الإسرائيلية كانت مُحمّلة بقنابل خارقة للتحصينات، وكان من المفترض أن تدخل الأجواء الإيرانية وتلقي هذه القنابل على المنشآت النووية والصاروخية. لكنها لم تستطع اختراق الأجواء الإيرانية، وكل ما يُقال من قبل المسؤولين الإسرائيليين عن "السيطرة على الأجواء الإيرانية" هو محض افتراءات وأكاذيب، على الأقل حتى لحظة كتابة هذا المقال. وفي الواقع، باتت إيران هي التي تسيطر على أجواء الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر قدرتها الفائقة على استهدافها بصواريخها الدقيقة.

كان الرهان الإسرائيلي الأمريكي الخاسر أن تؤدي عمليات الاغتيال إلى إحداث حالة من الفوضى والاضطرابات الداخلية في إيران، وخروج المعارضين إلى الشوارع، لكن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا، إذ نبذ الإيرانيون خلافاتهم جانبًا، وتوحدوا لمواجهة العدو الصهيوني، وفشلت جميع المحاولات الإسرائيلية اليائسة لاستهداف المنشآت النووية، كما فشل عملاء إسرائيل في تدمير الأنظمة الدفاعية ومنصات إطلاق الصواريخ.

بعد الفشل الذريع للعملية، حوّلت إسرائيل عملاءها إلى "ذئاب منفردة" تم نشرهم في شوارع المدن الإيرانية الكبرى لتنفيذ عمليات إرهابية ضد البنى التحتية المدنية والاقتصادية، واستهداف أي شخصيات حكومية أو عسكرية يمكنهم الوصول إليها.

في الوقت الراهن، فإن معظم العمليات داخل إيران تتم باستخدام طائرات مسيرة وصواريخ صغيرة الحجم بحوزة المئات من العملاء الذين تمكنوا من التسلل إلى الداخل، وتعمل الأجهزة الأمنية الإيرانية على قدم وساق للقبض عليهم وتقديمهم للعدالة.

ومن ناحية أخرى، وبعد أن أدركت الولايات المتحدة أن العملية الإسرائيلية قد فشلت فشلًا ذريعًا، وأن إسرائيل باتت تحت ضغط هائل بسبب استهدافها بالصواريخ الإيرانية، بدأت واشنطن بمطالبة الأطراف التي تملك نفوذًا على إيران بالضغط عليها لوقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات.

لكن المؤكد أن إيران لم تعد تقبل بالشروط السابقة التي ربما كانت ستقبل بها تحسبًا لمواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. أما الآن، فقد أصبحت إيران هي من يفرض الشروط، لأنها ترى أن لديها اليد العليا في المعركة.

ويصر العديد من صُنّاع القرار في إيران على أن أي مفاوضات مستقبلية يجب أن تتضمن الشروط التالية:

  • وقف إطلاق نار شامل ودائم في المنطقة، وليس فقط بين إيران وإسرائيل.
  • قبول الولايات المتحدة بمطلب دول المنطقة بجعل المنطقة خالية تمامًا من الأسلحة النووية، وإجبار إسرائيل على الانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وفرض رقابة دولية مُحكمة على برنامجها النووي.
  • الاتفاق على حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي، وفرض قبوله على إسرائيل، لأنه طالما بقيت هذه القضية دون حل، فإن الصراعات والنزاعات في المنطقة ستستمر إلى ما لا نهاية.
  • وقف تدخلات الولايات المتحدة السافرة في الشؤون الداخلية الإيرانية، ورفض إيران القاطع لأي طلبات خارج إطار التزاماتها المُحددة في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
  • رفع جميع العقوبات الأمريكية الجائرة، ووقف الضغوط والتهديدات السياسية الأمريكية والأوروبية ضد إيران.
  • وقف الضغوط الأمريكية والأوروبية على إيران في القضايا السيادية، مثل برنامجها الدفاعي، لأن الهجوم الإسرائيلي الغادر على إيران أكد بما لا يدع مجالًا للشك أن البلاد في خطر حقيقي، وأن هناك احتمالية كبيرة لهجمات مستقبلية.

على أي حال، يبدو أنه بينما كانت إسرائيل والولايات المتحدة تخططان لترسيم ملامح جديدة للشرق الأوسط وفقًا لأهوائهما، فإن إيران هي التي، على الأقل حتى الآن، باتت تضع شروطها على الطاولة لترسيم هذه الملامح.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة